الارشيف

هل من الممكن أن تنسحب إسرائيل طواعية من الأراضى العربية؟ وكم مرة انسحب الاستعمار من أى دولة برغبته؟ ولماذا ينسحب وأصحاب الأرض منشقون على بعضهم متهالكون فى كل شىء إلا الاستعداد؟


كلها أسئلة دارت فى رأسى قبل الحرب التى وجدت لها الإجابة، كما كتبت بخط يدى، أن أى احتلال لا يخلى موقعه إلا بالقوة العسكرية المؤكدة، سواء مارست هذه القوة ضغطها بالقتال الدامى أو أشعرت العدو بها فخشى من تكبيده خسائر فادحة، إذن كان لا بد أن تكون قواتنا المسلحة قادرة وواثقة من نفسها، ومن سلاحها، ومن قادتها، بحيث تمثل درجة عالية من الكفاءة تتيح لها أفضل الأداء فى الوقت المناسب، ولا بد بالطبع أن تعتنق القوات مبدأ حتمية القتال بديلاً، وأن الحل السلمى ليس وارداً إطلاقاً، وأن المعركة لا بد أن تحدث وفى أقرب وأنسب وقت ممكن، تلك قناعتى وهى مساوية لشرف بدلتى العسكرية التى عدت إليها مرة أخرى.


لقد كنت مقتنعاً طوال مدة خدمتى العسكرية أن الرجل، لا السلاح، هو الذى ينتصر، فالنصر يتكون أولاً فى قلوب الرجال ثم يكتسبه الرجال فى ساحة القتال، وعلى هذا لا يمكن للمقاتل مهما تكن رتبته أو درجته ومهما تعطه من سلاح أن ينجح أو ينتصر إلا إذا وثق فى نفسه أساساً، ووثق فى قادته وفى سلاحه وفى عدالة قضيته، كل هذا إلى جانب إيمانــه أولاً وأخيراً بالله.


وعلى هذا فإن غرس الثقة فى النفس بين الجنود بعضهم البعض، وبينهم وبين القادة وبين الجميع، والسلاح، كان من أهم الأمور التى ركزت عليها فى كلماتى منذ أول يوم مارست فيه مسئولية القيادة، لقد كان فى يدنا سلاح جيد إلا أن المناخ العام شك فيه كثيراً، شك فى حجمه، وشك فى نوعيته، نعم أعترف بوجود أسلحة ومعدات أكثر تقدماً عما لدينا فى بعض التخصصات، لكن من قال إن السلاح الذى فى أيدينا انعدمت مقدرته لأنه غير كفء أو غير متطور؟ إن من يقول ذلك يستهدف به عن قصد إيجاد ذريعة لعدم القتال، مع أنه من الممكن وبمعدات تكميلية أن ترفع كفاءة بعض الأسلحة، وهذا ما فعلناه فعلاً، إذ حصلنا على معدات تكميلية من دول مختلفة رفعت كفاءة تلك الأسلحة، وفاعليتها، بل إن بعض تطويرات الأسلحة والمعدات ابتكر على يد مصريين.


وعلى أى حال ومهما تكن الأسباب، فإنه يجب أن نراعى عند تخصيص المهام للقوات أن تناسب طبيعة الأسلحة، والإمكانيات المتاحة لنا، وأن نعرف نقاط ضعف العدو ونحاول استغلالها، ونقاط قوته ونحاول إبطالها بخطط ذكية، وفى الوقت نفسه نستفيد من نقاط وعوامل قوتنا ونقلل بقدر الإمكان من نقاط ضعفنا، أى باختصار شديد يمكن أن نضع أفضل الخطط حسب الظروف والإمكانيات المتاحة لنا، ويمكن بتلك الخطط أن نحقق مهامنا القتالية، لذلك ركزت فى لقائى مع رجال القوات المسلحة على وجوب الثقة فى كفاءة السلاح الذى بأيدينا، ولم يكن ذلك مجاملة لأحد، المهم كيف نستخدمه بشكل أكثر فاعلية وتأثيراً، ولعل نتائج حرب أكتوبر أكدت صدق ما كنت أقول، وكان علينا بالنسبة للظروف المحيطة بنا أن نصون هذا السلاح، وأن نرعاه وأن نستخدمه أفضل استخدام، ليس لتطبيق المبادئ العسكرية فحسب، بل لأن ما كان لدينا هو الأساس ولم يكن لنا أن نتركه هدراً، إن تركناه نحن فلن يتركه العدو.


وللحق استجاب الرجال وتعاونوا معى بسرعة وبمنتهى الجدية، خصوصاً أنه تربطنى بمعظمهم أواصر زمالة سابقة لمسوا من خلالها مدى جديتى وعزمى على بذل أقصى جهد وطاقة، للارتقاء بالكفاءة القتالية للوحدات والتشكيلات التى خدمت بها، إضافة إلى جهودى عندما كنت قائداً للجبهة بعد عدوان 67، ثم وأنا رئيس للأركان، وكان لذلك أكبر فضل فى دعم الثقة المتبادلة بينهم وبينى، فضاعفوا من جهودهم وكان عملهم أقرب إلى المعجزة، لا سيما أنهم استشعروا فى كل لحظة أن أمل أمتهم ومصير وطنهم بين أيديهم، كما أنهم استشعروا دورهم المتعاظم، خصوصاً بعد قرار السيد الرئيس الصادر فى 8 يوليو عام 1972 بإنهاء عمل الخبراء السوفيت، وكان هذا القرار يعنى أن حتمية المعركة أصبحت غير قابلة للنقاش، وأن المسئولية بأكملها أصبحت فى عنق الفكر المصرى والساعد المصرى، كما أن ذلك كان يعنى أيضاً ثقة مطلقة من القائد الأعلى فى القوات المسلحة، وكانت تلك ملامح الصورة على الجبهة.


لقد هالنى ما قيل من عدم إمكانية تحقيق أى تعاون أو تنسيق بين سوريا ومصر، كنت أسال نفسى وأقول لزملائى: لماذا هذا الكلام؟ إن مصر وسوريا منذ عصور التاريخ الغابرة لهما دورهما الخالد فى الدفاع عن المنطقة، تقول لنا كل شواهد التاريخ المعاصر، كما يقوله لنا المنطق والحسابات العسكرية: إن البلدين يشكلان فكَّى كماشة تطبق على العدو كالبندقة، وتستطيعان تحطيم ضلوعه وشل حركته، وهما دولتان عربيتان بينهما تاريخ بعيد مشترك، وتاريخ قريب ممتد، وتربطهما اليوم مصالح واحدة ويجمعهما معاً هدف واحد، والإنسان العربى فى سوريا مثله مثل الإنسان العربى فى مصر، كفء وقادر على البذل والعطاء، فلماذا إذن تلك الهواجس والشكوك، وكان منطقيّا أن أزور سوريا الشقيقة، وهناك التقيت رفاق السلاح، وناقشنا الموقف كله بصراحة، وبدأنا على الفور نجهز ونرتب لعمل مشترك مرتقب وحتمى، وعندما كنت أنظر إلى ملامح الصورة على الجانب الآخر كنت أتوقف أمام عناصر القوة لدى العدو.


فهذه هى قناة السويس، كمانع مائى فريد فى طوله وعرضه وعمقه، وتلك هى تحصينات خط بارليف الممتدة بطول القناة، وبما تحويه من نقاط قوية مدعمة بالأسلحة والمعدات المتطورة، ويحيط بها كل ما تفتق عنه الفكر البشرى من الموانع، ومن وراء ذلك كله خطوطه الدفاعية الأخرى وتجمعات مدرعاته القوية وطيرانه المتفوق، وعلى ضوء تلك الحقائق أخذنا نفكر -القادة كل فى اختصاصه وأنا- بعد أن طرحنا نهائيا فكرة تأجيل الحرب إلى حين الحصول على سلاح مماثل، وفى إطار ثقتنا جميعاً فى أن السلاح بالرجل وانتهينا إلى وضع خطة شاملة تكفل حل كل المشكلات والعقبات العسكرية وتؤدى فى الوقت نفسه إلى تحقيق الآتى:


أولاً: مفاجأة العدو:


واستلزم تحقيق هذا الهدف وضع خطة خداع استراتيجى وتعبوى وتكتيكى، اشترك فى تنفيذها مع وزارة الحربية الأجهزة المعنية فى الدولة.


ثانياً: اقتحام قناة السويس وتدمير خط بارليف:


ومثلما تطلب اقتحام القناة دراسات عديدة ودقيقة لتحديد أنسب الوسائل وأنسب الأوقات التى تضمن نجاح هذه المهمة فى أقصر وقت وبأقل خسائر ممكنة، فقد تطلب تدمير خط بارليف واقتحامه دراسات مكثفة أخرى وتدريبات واقعية عنيفة استخدمت فيها المعدات التى ابتكرها فكر المقاتل المصرى، وكانت إلى جانب إصراره سبباً فى سقوط هذا الخط فى زمن أثار دهشة العدو وإعجاب رجال الفكر العسكرى فى أنحاء العالم، لاسيما أن الاقتحام تم بالمواجهة.


ثالثاً: تقليل أثر تفوق العدو فى المدرعات والطيران:


بالنسبة للمدرعات قررنا أن نمكن الجندى من مواجهة الدبابة، والتغلب عليها بشتى الوسائل خصوصاً فى الساعات الباقية على الانتهاء من إقامة المعابر التى تعبر عليها مدرعاتنا وأسلحتنا الثقيلة، ولقد نجح جنودنا فى تحقيق تلك المهمة وأصبح أمر صمود الدبابات فى المعارك موضع تساؤل ودراسات على ضوء ما حدث أثناء معارك أكتوبر.


وللتغلب لى تفوق العدو فى الطيران كان سبيلنا إليه تحقيق أمرين:


1- أن يكون هجومنا على طول المواجهة وهو ما يرغم العدو على توزيع ضرباته الجوية المضادة.


2- تعاون كامل ودقيق بين قوات الدفاع الجوى بشبكة صواريخ وقواتنا الجوية بطائراتها بحيث يتمكن الاثنان معاً وبتنسيق بينهما من مواجهة طائرات العدو.


ولقد نجح الأسلوب إلى أقصى حّد وفقد العدو منذ الساعات الأولى للحرب ميزة تفوقه الجوى.


ولم تكن تلك هى كل المشكلات التى واجهتنا ونجحنا فى التغلب عليها؛ إذ كانت هناك مشكلات أخرى كثيرة، ولكن لم يحن الوقت للكشف عنها أو للحديث عن أسلوبنا فى التغلب عليها، هكذا كان الموقف مصريا وسوريا وفى جبهة العدو، على أن هناك ساحة أخرى مهمة لتحركاتنا وأعنى بها الدول العربية، إنها بغير جدال أمة واحدة لها تاريخها المشترك، وثقافتها الواحدة، ومصيرها الواحد أيضاً، وهى قوة لها ثقلها فى المحيط العالمى، فهل يمكن أن ندخل الحرب ونحن بعيدون عنها أو وهى فى معزل عنا؟


بديهيا لا يمكن ذلك، وهذا هو ما دفع الرئيس أنور السادات إلى تنقية الجو العربى وإزالة ما علق به من شوائب تعمل مع استمرار وجودها على إيجاد الخلافات والتناقضات بين أبناء الأسرة الواحدة، وهذا أيضاً كان راسخاً فى يقينى واعتقادى.


 


وعلى ضوئه، بدأت جولاتى فى الدول العربية وكان حديثى مع القادة العرب يدور حول تأكيد حتمية المعركة وحتمية النصر فيها بأى ثمن، لم نكن نطلب من أحد أن يحارب معركتنا بدلاً منا، ولم نكره أحداً على المساهمة بجهد محدد، بل كان الهدف إيجاد مناخ صالح للمعركة وحشد الإمكانيات المتاحة والممكنة سواء كانت بشرية أو سلاحاً أو مالاً أو حتى تأييداً سياسياً ومعنوياً، وكانت جولتى مجرد خطوة على طريق التمهيد السياسى والجهود المكثفة التى بذلها القائد الأعلى الرئيس محمد أنور السادات أثناء لقاءاته بالرؤساء العرب ومن خلال زيارته لأكثر من دولة عربية خصوصاً فى الأسابيع السابقة على الحرب مباشرة، وبهذه التحركات أصبح مسرح العمليات جاهزاً للحركة وصارت القوات المسلحة المصرية والسورية فى وضع الاستعداد النهائى.


وخلال تلك الفترة بطبيعة الحال لم تنقطع الاجتماعات على كل المستويات، وأهمها اجتماعات المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مصر، وعقد عدد منها برئاسة الرئيس السادات وكان بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة يركز على ثلاثة عناصر:


1- ثقته المطلقة فى القوات المسلحة فكراً وقيادة وأداء.


2- مسئوليته التاريخية لمعركة التحرير والمصير.


3- تحذيره من اتباع النمطية فى التخطيط والتنفيذ.


لقد كانت النمطية هى ما أكرهه كرهاً شديداً، فهى أسلوب كلاسيكى يضع قيداً على الحركـة ولا يترك مجالاً للابتكار والإبداع سواء فى التخطيط أو فى التطبيق التكتيكى والنواحى الفنية خلال التنفيذ.


أيضاً كانت هناك على مستوى القيادة الاتحادية اجتماعات للمجلس الأعلى المشترك للقوات المسلحة فى مصر وسوريا اعتباراً من يوم 21 أغسطس عام 1973 لتنسيق الشكل النهائى للمعركة.


ولعلنى الآن وأنـا أسترجـع تـلك الأيـام العصيبـة فى ذهنـى أجــد أن ما رسمناه من خطوط رئيسية لمرحلتنا كان واضحاً تماماً فى فكرى، لم يكن هناك مجال للصدفة، كان كل شىء يمضى وفق أحدث الأساليب علميا وعالميا، لقد كنا نسير فى ثلاثة محاور رئيسية مهمة:


أولها: رفع كفاءة الخطة الدفاعية عن البلاد وما يستلزمه ذلك من تجهيزات وإمكانيات.


ثانيها: وضع الخطط لردع العدو إذا ما حاول بقدرته المعتادة أن يعتدى علينا.


ثالثها: وهو الأهم، وضع الخطة الشاملة للمعركة المنتظرة.


وعلى الرغم من تعارض هذه المحاور أحياناً فإننا وبفكر مصرى خالص استطعنا أن ننفذها بكفاءة عالية عبرنا بها مرحلة الاستعداد الصابرة إلى مرحلة الاقتحام الدموى التى اقتحمت بها أمتنا العربية كلها آفاق العصر الجديدة، لتحتل مكانتها اللائقة كقوة مؤثرة لها حسابها فى موازين العالم كله.


كان لا بد من وضع خطة خداع شارك فيها الرئيس نفسه، ووزارة الخارجية كان لها دور مهم فى خطة الخداع.


وفعلاً قبل الحرب بـ60 يوماً وجد ضباط متخصصون لتنفيذ خطة الخداع ومعهم ورقة ينفِّذون ما بها بالضبط، وكانت كلمة سر الحرب حرف الياء، وقبل الحرب بأسبوع أو عشرة أيام، وضعت غرفة العمليات خطة من ضمن خطط الخداع، تمثلت فى أن مصر ستنفذ مشروعاً استراتيجيا وسُرِّب الخبر وبياناته إلى إسرائيل وجزء منه مشفر، وبالفعل صدقت إسرائيل أن مصر على وشك دخولهـا فى مشروع، لذلك استطعنا أن نوهم العدو أنه لا توجد حرب ووجدوا عساكر يلعبون كرة قدم وجاء موشى ديان بنفسه ليرى الوضع على الجبهة يوم الحرب، ووجد العساكر يلعبون ورجع، وفى الساعة الثانية وخمس دقائق قال لجولدا مائير إنه لا يوجد أى حرب فردت عليه: لا، تم ضرب قواتنا الجوية مركز 10، وهو مركز تحت الأرض بمسافة طويلة وعبارة عن غرفة رئيسية ويوجد منها غرف جانبية بمحطات كهرباء وتكييف لكن حدث عطل فى التكييف أثناء الحرب وتم تشغيل المراوح العادية كما يوجد تليفونات لاسلكية، ولكن تم توصيلها بمكان بعيد عن مركز 10 حتى لا يتسنى للعدو معرفة مكان قيادة الحرب.


لم يُعرف موعد الحرب ولا يوجد أى ضابط يعرف الموعد إلا مساء يوم الجمعة عندما جاء اللواء الجريدلى مع رئيس هيئة العمليات اللواء الجمسى، وأخذوا مجموعة من الضباط وكتبوا ورقاً بخط اليد تقرر أن تكون ساعة سين ساعة 1405 يوم 6 أكتوبر، ووضعت فى أظرف وسلمت لضابط المراسلة الذى سيصل إلى قائد الجيش شخصيا، وتم اختيار ضباط المراسلة، وصدر لهم تعليمات مفادها: إذا حدثت له مشكلة فى الطريق يبلع الورقة على الفور ما عدا فرقة واحدة هى التى أخذت هذا الظرف قبلها بأسبوع، مع العلم أن الضباط الموجودين فى نفس غرفة العمليات لم يعرفوا ذلك.


وكانت مدمرة تذهب من خليج طبرق من البحر الأحمر وتنحدر إلى مضيق باب المندب وكانت الرحلة تستغرق أسبوعاً فى رحلتها.


بعد ذلك يوم السبت فى الصباح، قلت لهم أن ينزلوا خريطة الحرب التى تدربوا عليها، وكانت عملية منظمة جدا.


وفى الساعة 12 والنصف خرجت من مركز 10 ولم أترك أى خبر لأى شخص، أين سأذهب، وتوجهت للرئيس السادات فى منزله واصطحبته معى مرة أخرى إلى مركز 10.


مركز 10 عبارة عن غرفة كبيرة مربعة ويوجد طاولة كبيرة بطول الغرفة والرئيس السادات يجلس فى النصف على يمينه، وعلى الشمال رئيس أركان حرب الفريق سعد الدين الشاذلى ويواجهنا من الناحية الأخرى اللواء حسن الجريدلى وبجانبه 2 من الضباط يتناوبان كتابة أى أوامر يصدرها لهم الرئيس أو أنا أو رئيس الأركان.


وكان الجمسى جالساً على مكتب بمفرده وبجانبه النائب الخاص به، وفى بعض الأحيان يجلسون بجانب بعض، وبعد مكتب الجمسى مكتب مشابه له يجلس فيه 2 من العمداء يعملان فقط على السيطرة على المكان ومن له حق الدخول أو الخروج، ويدعوان رئيس مكتب السيطرة، وليس لهما علاقة بالحرب أو العمل الذى يتم.


وفى الجانب الآخر البعيد توجد شاشة من الزجاج وخلف الشاشة عساكر يرتدون ملابس سوداء، وهذه الشاشة مرسوم عليها منطقة القناة والمطارات العسكرية والعدو وسيناء كلها، ويتم الرسم بالعكس حتى يرى ما بداخل غرفة مركز 10، الرسومات مضبوطة ويرسمون بألوان مختلفة الطيارات المصرية، لون لمصر وطيارات العدو لون مختلف.


وفى الجانب الأخير من مركز 10، معلق عليه خريطة كبيرة عليها خطة الحرب التى تم تنفيذها، وفى منتصف المركز خريطة كبيرة موضوعة وحولها ضباط فرع التخطيط وعليهم مسئولية متابعة الخطة.


وهمست فى أذن الرئيس أنور السادات، قائلاً: «مبروك يافندم كل الضربة الجوية نجحت والبقاء لله، شقيقك عاطف استُشهد فى الضربة الجوية»، فرد علىَّ السادات «كلهم أولادى زيه زى باقى زملائه».


الساتر.. القناة.. الخط


نكون أو لا نكون


كان خط بارليف والساتر الترابى هو أكثر ما يشغلنى أثناء الإعداد لتخطيط مسار الحرب فى أكتوبر 1973، وكان السؤال الذى لا يفارقنا أنا واللواء الجمسى هو كيف سنتغلب على تلك الحواجز التى أعلنت جولدا مائير يوم زيارتها لها، أنها رمز للذكاء الإسرائيلى، وأن أى اعتداء على خط بارليف بمثابة إهانة لهذا الذكاء الإسرائيلى؟ لم يكن الأمر مقصوراً على خط بارليف والساتر الترابى فقط، ولكنه امتد إلى قناة السويس ذاتها، فهى مانع مائى بعمق 16 متراً، وعرض يتراوح ما بين 180 متراً - 220 متراً. وهو ما يعنى تركيز نقاط العبور بشكل يجعل اصطياد قواتنا، أمراً سهلاً. بالإضافة إلى قيام إسرائيل بتلغيم حافة القناة على ضفتها الشرقية بشكل لم يسبق له مثيل. وكأن الجغرافيا تعاندنا هى الأخرى وتضع أمامنا عائقاً تلو العائق.. فقد كانت ظاهرتا المد والجزر فى مياه القناة، مشكلة أخرى تزيد من صعوبة قوات العبور عند البدء فى تثبيت الكبارى. فمنسوب المياه يتغير فى القناة أربع مرات فى اليوم الواحد، ليصل الفارق بين أعلى وأقل جذر 60 سنتيمتراً فى شمال القناة، و200 سنتيمتر فى جنوبها. وقد تغلبنا على تلك المشكلة بدراستها لتحديد أنسب ساعة فى اليوم للعبور، وبدأنا فى تدريب قواتنا على إنشاء الكبارى فى أقل وقت ممكن، كى تتمكن الدبابات والأسلحة الثقيلة من العبور للضفة الشرقية لفتح ثغرات وممرات فى الساتر الترابى، وكذلك دخول المدرعات والدبابات لعمق سيناء. كان التدريب يتم على ذلك فى غرب الدلتا، ومن خلال التدريب اكتشفنا أن إحداث ثغرات فى الساتر الترابى باستخدام نيران المدفعية والعبوات الناسفة، يستغرق وقتاً لا يناسب عملية العبور. فبدأ سلاح المهندسين فى القوات المسلحة فى إجراء التجارب على استخدام مضخات مياه ألمانية بعد إجراء تعديلات على طريقة عملها لتضخ 200 متر مكعب من المياه فى الساعة. وكانت تلك هى الطريقة التى وقع اختيارنا عليها، فقمنا بشراء 150 مضخة ألمانية، بالإضافة إلى ما كان لدينا وهو 350 مضخة بريطانية الصنع، وخصّصنا خمس مضخات لكل ثغرة؛ إذ كان على القوات أن تفتح ما بين 75 - 85 ثغرة فى الساتر الترابى فى فترة لا تتجاوز خمس ساعات، لإزالة 1500 متر مكعب من الرمال.


ورأينا أنه فى ذات الوقت الذى تبدأ فيه المضخات بعمل الثغرات، يكون عبور جنودنا من طلائع القوات من الصاعقة والمشاة، لتسلق الساتر الترابى، بزاوية حادة تم قياسها بدقة، حاملين على ظهورهم الصواريخ المضادة للدبابات، والأسلحة الخاصة بهم.


الحقيقة أنه لم يكن لدينا ما يكفى من تلك الأسلحة، وكان الخوف الشديد على قواتنا ورجالنا الذين جازفوا بحياتهم فى تلك اللحظة، حيث أمطار النيران الإسرائيلية التى كانت تتربّص بهم. ولكن كان عليهم مهمة تدمير المدرعات والدبابات الإسرائيلية التى أنشأ لها العدو مرابض فى أعلى الساتر الترابى، وقد تدرّب الرجال على العبور عشرات المرات فى أحد المواقع بجنوب مصر؛ ولذا لم يكن من الصعب عليهم عبور القناة يوم 6 أكتوبر.


أما خط بارليف فكان يتكون من 30 موقعاً حصيناً، تم تشييدها بطول القناة من منطقة بورسعيد حتى بورتوفيق، وكانت مساحة كل موقع 500 متر × 500 متر، ويمثل كل موقع منها نقطة استطلاع، إضافة إلى كونها مركزاً هندسياً قوياً، وهو ما منح العدو فرصة السيطرة على قناة السويس شمالاً وجنوباً، لا من ناحية الضفة الشرقية وحسب، بل الضفة الغربية أيضاً. ودعم هذا الخط بخط ثانٍ داخل سيناء على مسافة كيلومترات من الخط الأول، تحسّباً لأى محاولة ناجحة لقواتنا فى عبور القناة.


كانت القناة هى نقطة الضعف الكبرى رغم التدريب عشرات المرات على العبور فى جنوب مصر، إذ إن العبور كان سيتم باستخدام مراكب مطاطية بطيئة، تُعد أهدافاً سهلة لمدافع العدو، بل إن إسرائيل أنشأت خزانات نابالم أوصلتها بأنابيب فى اتجاه الشاطئ الغربى للقناة، تشتعل أتوماتيكياً من داخل حصون خط بارليف فى حال حدوث أى محاولة لعبور القناة.


لقد كنا موضع إشفاق كل من يزور الجبهة من الخبراء العسكريين أو المسئولين فى الدول التى حافظنا على علاقتنا بها. كانوا يقولون عبارة واحدة: «إن عبور القناة مشكلة ليس لها حل، ولا يوجد لها حل، ولن يكون لها حل».. ولكن أثبت الرجال خير أجناد الأرض أن لا شىء يستحيل عليهم..


كان لدينا فى جبهة القناة جيشان ميدانيان هما الجيشان الثانى والثالث، يتضمنان خمس فرق مشاة فى النسق الأول للقوات المسلحة، بالإضافة إلى قطاع بورسعيد العسكرى، وخططنا لاقتحام القناة بالمواجهة وليس من الجوانب لعدم امتلاكنا العدد الكافى من طائرات الهليكوبتر التى تسمح بإنزال القوات كلها جواً، مع جعل الهجوم بطول خط المواجهة لتقليل ضربات طائرات العدو على قوات العبور. وكانت الخطة أن يعبر المشاة بأسلحتهم الخفيفة والأسلحة المضادة للمدرعات والدبابات ليشكلوا موجة العبور الأولى، وأن يصمدوا فى وجه العدو لمدة 24 ساعة لحين الانتهاء من إنشاء الكبارى وتثبيتها لعبور الدبابات. لقد كان تثبيت الكوبرى يستغرق ما بين 6 و8 ساعات.


لا يمكننى هنا إغفال الحديث عن الهيئات والإدارات صلب تنظيم القوات المسلحة التى بذلت ما فى وسعها لإزاحة العقبات الماثلة أمام القوات لإنجاح عملية العبور التى لم تكن بأى حال من الأحوال مصادفة، أو هدية من الحظ، ولكنها جاءت نتيجة للعمل الشاق، والإرادة المصرية التى أبت انكسار مصر. لقد عمل الرجال فى القوات المسلحة على تذليل كل الصعاب، ومنها تقليل زمن تثبيت وتركيب الكبارى على ضفتى القناة لتتراوح بين 6 - 8 ساعات، بدلاً من 12 - 24 ساعة. كما أنشأنا مصاطب للدبابات على الساتر الترابى المصرى على الضفة الغربية لمعاونة قوات المشاة ودعمها فى حربها مع المدرعات والدبابات الإسرائيلية لحين عبور الدبابات المصرية، وكان مدى نيران الأسلحة والدبابات المصرية يصل إلى عمق 2.5 كيلومتر.


وقمنا بتصنيع عربات جر لحمل الذخيرة المضادة للدبابات خلف المشاة مباشرة، نظراً لاحتياجهم إليها فى الساعات الأولى للمعركة، كما تم تدريب القوات المصرية على القتال الليلى والنهارى وبأرقى مستويات التدريب. كان تركيزنا طيلة فترة الإعداد للحرب يرتكن على رفع الحالة المعنوية للجنود، و



اذا اعجبتك هذه التدوينة فلا تنسى ان تشاركها وتساعدنا على نشر المدونة ، كما يسعدنا ان تنضم الى قائمة المشاركين (نشرات rss)

0 comments:

Post a Comment


Search


الاكثر قراءة